رن القرآن الكريم بين سن الأربعين وبلوغ الرجل أشُدَّه.وبذلك فإنّ بلوغ الأشُدّ يختلف عن بلوغ الرشد أو سن البلوغ. وتماماً مثلما ينمو الرضيع فيصبح طفلاً ثُمّ صبيّاً وشابَّاً، حتّى تكتمل رجولته، ورجاحة عقله, ونضج فكره قريباً من الأربعين, فإنّ الأمم والشعوب تمرُّ في مراحل ولادة ثُمَّ فتوَّة ثمَّ شباب ثمّ نضج وكهولة وشيخوخة. وقد يتكرّر ميلاد الشعب الواحد بعد بضعة قرون ليبدأ المراحل التي أسلفنا من جديد. فالشعب المصريّ عاش قروناً تحت حكم الفراعنة الأوائل, طواغيت مصر. وعاش قروناً تحت الحكم الروماني. ثُمَّ جاء الفتح الإسلامي العُمري ليصبغ مصر بصبغتها الأجمل والأعظم, أرض الكنانة, وخير أجناد الأرض. وخلال الفترة الإسلامية الممتدّة على طول ثلاثة عشر قرناً ونيِّف كانت فترة المماليك, وفترة الفاطميين, والعثمانيين ثُمّ الحكم الملكيُّ وجمهوريّة الحزب الواحد حتى جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير،والتي عايشنا فصولها بالأمس القريب لتدحر آخر طواغيت تلك الحقبة، ولتفتح مصر والأمة العربية والإسلامية عهداً جديداً وتاريخاً مجيداً قادماً بإذن الله تعالى.
البشرية بلغت أشدها ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم
ظلت البشرية آلاف السنين قبل عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عبارة عن شعوب متناثرة على وجه الأرض، مختلفة في عقائدها، بعيدةً عن نهج يوحدها أو شريعة تجمعها. وكان الأنبياء من قبل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلامه، يُبعَثون إلى أقوامهم خاصة في حدود زمنية وجغرافية محددة، وشريعة تقتصر على أصول العقيدة وبعض العبادات والتشريعات الخاصة. حتى جاء عهد نبينا الكريم صلوات الله وسلامه علية، فكانت بعثته حدثاً فارقاً في تطور البشرية، وبلوغها، واستعدادها لاستقبال رسالة عالمية وشرعية تتوارثها الأجيال وتبلّغها لمن بعدها حتى قيام الساعة.
لم يكن العرب قبل الإسلام امة بمعنى الكلمة. ما كان لهم من منهج يجمعهم، ولا عقيدة توحِّدهم. بل كانوا قبائل متناحرة، ليس لهم نمط حياة موحَّد ولا ثقافة واحدة. حتى بعث الله تعالى فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فكانت بعثته في مكة ثم هجرته إلى المدينة. وخلال قرابة العقدين من الزمن اكتمل بناء الأمة الإسلامية المصغرة. امة عدادها بضعة آلاف من المهاجرين والأنصار، لهم عقيدة راسخة، وشريعة واضحة، وقيادة موحّدة وقيم نبيلة وأهداف عظيمة. فلمّا اكتمل ذلك "جاء نصر الله والفتح،ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا". فقد تم للمسلمين فتح مكة ثم إسلام القبائل وقدوم الوفود من جميع أطراف الجزيرة العربية. ويكمل الخلفاء الراشدون المهمة من بعد نبيهم وقائدهم، فيفتحون البلاد مشرقها ومغربها، ويقيمون أعظم حضارة في التاريخ.
والأمم تولد من جديد
عاشت أوروبا قروناً، تحت وطأة الجهد والتخلُّف في القرون الوسطى، وكان استبداد الكنيسة، وحكم الإقطاعيين قد كبت كل مناحي الحياة. وظل الحال كذلك حتى هبت الثورة الفرنسية، التي ما لبثت أن تبنّتها كل الشعوب الأوروبية، فثارت على واقعها الأليم، ودمّرت رموز الحقبة المظلمة من سجن الباستيل إلى محاكم التفتيش إلى ما سواها. فهي ولادة جديدة ظلت تنعم بها أوروبا الغربية. أما أوروبا الشرقية فانتقلت إلى حكم القياصرة والأنظمة الدكتاتورية الشمولية، حتى احتاجت إلى ولادة جديدة في تسعينات القرن الماضي بسقوط الاتحاد السوفييتي وبالبرسترويكا الروسية، ثم سقوط تشاوشسكو " إمبراطور" رومانيا، وتيتو دكتاتور يوغسلافيا لتتوّج بسقوط جدار برلين ووحدة ألمانيا من جديد.
وها هي تركيا تولد من جديد بوصول حزب العدالة والتنمية لدفة الحكم والذي أعاد لتركيا هويتها الإسلامية ووجهها الحضاري الشرقي وكرامتها التاريخية. ومن قبل فقد ولدت إيران من جديد بثورة الخميني أواخر ثمانينات القرن الماضي. وألان تولد الأمة العربية من جديد، بثورة تونس ومصر، وبداية سقوط الأصنام العربية الواحد تلو الآخر، ونرجو ألا يتوقف هذا المدّ، وهذه الولادة المتجدّدة حتى تقضي على كل رموز الفساد والظلم والقهر، من حكام العرب وأنظمتهم. لكي تستبدلهم شعوبهم بأنظمة وحكام صالحين مصلحين، مخلصين لشعوبهم، وحريصين على مصالح وكرامة هذه الشعوب ومستقبلها.
والشعوب تتأهّل تدريجياً لبلوغ قمّتها
ظلت العبودية والعنصرية مستفحلة في أمريكا حتى انقضت عقود كثيرة من القرن العشرين. فالمرأة في أمريكا لم يكن لها حق الانتخاب فضلاً عن الترشُّح أو تبوء مواقع قيادية في الولايات المتحدة. والسود الأمريكيون عانوا من العنصرية الموجهة ضدهم.فحُصروا في أحياء فقر وجهل. وكان عليهم أن يقوم احدهم ولو كان طاعناً في السن ليفرغ مكانه في الحافلة للرجل الأبيض ولو كان شابا. ولم يتح للأسود أن يدخل نادي البيض أو مقهاهم، هذا فضلا عن البرلمان أو قاعة البلدية أو قاعة التدريس في الجامعة. ثم ما لبثت أمريكا أن تأهلت تدريجيا، ونمى فيها الوعي لقيم الديمقراطية والمساواة،فخطت خطوات حثيثة في سنّ القوانين التي تعيد للمرأة مكانتها, وتمنحها حقوقها وحرّيتها حتى تجاوزت الحد في ذلك إلى المبالغة. وقوانين أخرى تُحد من العنصرية، والتضييق المفروض على السود والأقليات الأمريكية فدخل الأمريكي الأسود النادي والجامعة والجيش والحزب والبرلمان حتى وصل إلى البيت الأبيض ورئاسة الولايات المتحدة، ذات النفوذ الأكبر في العالم. فلقد تدرّجت أمريكا إذا حتى بلغت رشدها الدستوري وحتى استوعبت قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة أمام القانون.
وتماما كذلك فان شعوبنا العربية التي استمرأت الظلم،ورضيت بالاستبداد والقهر الذي مورس بحقها. فقد استغرق معها وقت طويل حتى انتفضت على الخوف الذي يسكنها، وثارت على الفساد والظلم الذي يحاصرها. ثم ما لبث شعبا تونس ومصر أن بدءا يتنفسان نسيم الحرية والكرامة الذي بدأ يهبّ عليهما، بعد أن استعدا للتضحية من اجل القيم التي عرفا قدرها وعظما قيمتها.
نِعم التقليد والاستيراد.... الثورة وقيَمها
لطالما قلد شباب العرب مظاهر الحياة الغربية. في الملبس والمأكل.والمشرب والمركب، في السفر والرحلات والجولات، وفي اللهجات وقصّات الشعر والموسيقى والاحتفال بالمناسبات الأجنبية، وغيرها الكثير. وأكثرنا من الرفض والشجب لهذا التقليد الأعمى.
أما اليوم فان لدينا نموذجا يُفخر به ويُعتز، ولا باس لو استوردناه أو قلدناه في كل الوطن العربي،انه نموذج الثورة المصرية. الثورة النظيفة، السلميّة، الواعية، المنظّمة، الثورة التي حددت الأهداف وأصرّت عليها. رفعت سقفها عاليا، أخرجت إلى النور كل قيم الخير الراسخة في مواطن الشعب المصري، طيبته، وحدته اعتزازه بانتمائه إلى أمته العربية والإسلامية، وحبِّه للحرية والحياة الكريمة.
إنها حركة مجتمع وانطلاقة شعب وولادة أُمَّة، ولن يعود التاريخ إلى الوراء، ومن يتذوق الحرية والكرامة، فسوف يعرفها على حقيقتها ولن يفرِّط فيها ابدأ، بل سيظل يهتف بها حتى يقنع الآخرين بان يتذوقوها ويضحوا من اجلها ويحرصوا عليها. وهي ثورة لن تنطفئ، حتى يعم خيرها المشرق والمغرب العربيين ويومئذ لن يبقى لغاصب أو محتلّ أو طاغية مكان ولا صولة ولا جولة.
منقول.......