عملية إجهاض حلم جمال عبد الناصر
التفت جمال عبدالناصر إلي شقيقيه شوقي والليثي قائلاً: «أملك مائتي جنيه سوف أحتفظ بمائة وأعطيكما الباقي فاعطياه لتحية، فبهذا المبلغ بالإضافة إلي دخلها ستكون في وضع حسن...... ولكن أرجو أن تهتما بها وبالأولاد»
جري ذلك الحديث بعد ظهر يوم 22 يوليو 1952 وكان جمال قد تلقي زيارة مفاجئة من الملازم أول سعد توفيق الضابط بالمخابرات الحربية، جاء ليحذره من الملك قد علم بأن هناك انقلاباً يجري الآن وقد اتصل برئيس هيئة أركان حرب الذي أصدر بدوره الأوامر إلي قادة الفرق واللواءات بالاجتماع في القيادة العامة.
وسأله عبدالناصر: كيف علمت بهذا الأمر ؟
فرد سعد بأنه نوبتجي إدارة المخابرات هذا اليوم وأردف أنه ينصح بتأجيل الحركة.
ولكن عبد الناصر أدرك أن العجلة بدأت تدور وأن عليه أن يبدأ العمل فوراً.
استقل عبدالناصر سيارته إلي منزل الصاغ عبدالحكيم عامر، الذي كان مجتمعاً ببعض قادة الحركة فأبلغهم بما طرأ وقرر أن يتم القبض علي المجتمعين في رئاسة الأركان وحدد ساعة الصفر بمنتصف الليل.....
واتجه " ناصر و عامر " بعد ذلك إلي ألماظة وفي الطريق شاهدا أعداداً كبيرة من العربات تتوجه إلي القاهرة.. كانت طلائع الكتيبة 13 أحاطت بالجنود القادمين وقبضوا عليهم ولكن قائد الكتيبة رآهم..
كان يوسف صديق قد تحرك مبكراً ومعه ثمانون من الرجال.. توجه الجميع إلي كوبري القبة واقتحم يوسف صديق وعبدالحكيم عامر مكتب اللواء حسين فريد وأعتقلوه مع كبار ضباطه..
وفي نفس الوقت حاصر خالد محيي الدين ومن معه منطقة العباسية ومنشية البكري.. وقامت دبابات حسين الشافعي باحتلال مبني الإذاعة والتلغراف والمطار ومحطة السكة الحديد وعند حلول الصباح كان الضباط الأحرار قد أحكموا قبضتهم علي زمام الأمور وسيطروا علي الوضع في البلاد.. واستيقظ المصريون صباح يوم 23 يوليو علي البيان الذي أذاعه راديو القاهرة في السابعة من الصباح باسم اللواء محمد نجيب القائد العام للجيش والذي يتحدث عن قيام الجيش بالقضاء علي الفساد والرشوة وعدم الاستقرار الذي ميز الفترة الأخيرة، وانه اصبح الآن يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور. استمع الناس في ذهول سرعان ما تبدد لتحل محله موجة طاغية من الفرح والإبهاج.. أدرك الجميع بحاستهم أن هناك تغييراً يطرأ علي حياتهم ويبعث التفاؤل... ولكن أياً منهم ولا حتي من القائمين بالانقلاب لم يكن يخطر علي خياله المدي الذي سوف يصل إليه اثر هذا التغيير، هذا الأثر الذي سوف يشمل الأمة ويمتد إلي كل العالم. اذن فقد نضجت الثمرة وحان وقت قطافها.
ففي السنوات القليلة التي سبقت 23 يوليو كان الوضع السياسي قد تردي إلي هاوية سحيقة فقد أجريت الانتخابات في الثالث من يناير 1950، فنجح الوفد وشُكلت الوزارة الأخيرة له برئاسة مصطفي النحاس... ولكن الوفد كان قد تغير نهائياً فقد أصبح سكرتيره العام هو فؤاد سراج الدين، أحد كبار ملاك الأراضي الذي سيطر مع جماعته علي الحزب وساقه إلي سياسة مهادنة الملك وطلب رضاه وعند تشكيل الوزارة ألح النحاس علي الملك بالموافقة علي تولي طه حسين وزارة المعارف، وكان الملك يعتبره من الشيوعيين ولكنه وافق ومنحه لقب الباشوية وهنا توجه النحاس إلي الملك طالباً شيئاً آخر وانتظر الملك بقلق ولكن النحاس فاجأه بأن طلب من الملك أن يسمح له بتقبيل يده!!.
وفشلت مفاوضات الوفد مع الانجليز فألغي معاهدة 1936 معهم وسحب العمال المصريين من القناه وبدأت الأعمال الفدائية ضدهم وانتهي الأمر "بحريق القاهرة في 26 يناير" وإقالة النحاس وأخذ الملك بعد ذلك يشكل الوزارات ويقيلها أو يطلب استقالتها لأوهي الأسباب وقد شُكلت 4 وزارات من علي ماهر ثم نجيب الهلالي ثم حسين سري ثم الهلالي الذي كان يشكل الوزارة حين سمع بأنباء الانقلاب.
يقول هيكل: كان حال مصر أشبه ما يكون بسفينة تمزق شراعها بقوة الريح وانكسرت دفتها بضرب الموج وأصبحت بمن فيها قبطان وبحارة وركاب لعبة عاجزة في قبضة إعصار هائج.
ونكتفي بذلك من أحداث الثورة وما قبلها... فليس المقصود هو كتابة تاريخ مصر في تلك الفترة في مقال أو أكثر.... فذلك ضرب من المحال.. وقد فعلها مجموعة من الباحثين والكتاب في مؤلفات قيمة.. ولعل أهمها هو كتاب محمد حسنين هيكل " سقوط نظام " الذي يقدم اجابة شافية للسؤال الذي طرحناه، لماذا كانت ثورة يوليو ضرورية ؟
إذن قامت الثورة وبدأت أولي خطواتها... وسوف نقفز علي كل وقائع الصراع بين أقطابها والتي أدت في النهاية إلي انفراد جمال عبدالناصر بالسلطة لنتساءل: ما السر في تلك الشعبية الجارفة التي لاقاها عبدالناصر ؟... وأدت إلي أن يصبح بحق الزعيم الحقيقي الذي يلتف حوله الجميع ؟
في اعتقادي الشخصي أن السبب الأول لذلك هو أن القضية الاجتماعية احتلت المقام الأول في شعارات الثورة كما أنها شكلت الجزء الأكبر من إنجازاتها... ولقد تم ذلك بصورة واضحة خلافاً لكل ما سبقها من ثورات أو مشروعات نهضوية.. لقد بدأت الثورة أولي خطواتها بتحديد ستة أهداف رئيسية تسعي لتحقيقها وكانت ثلاثة منها تتكلم عن تغيير النمط الاقتصادي والاجتماعي السائد من قبل وهي القضاء علي الاحتكار وسيطرة رأس المال علي الحكم والقضاء علي الإقطاع وثالثاً إقامة عدالة اجتماعية، ويلحق بها هدف القضاء علي الاستعمار وأعوانه وقد أنجزت الثورة معظم ما جاء في ذلك الإعلان بدرجات متفاوتة بينما فشلت في إقامة حياة ديمقراطية سليمة، كما أن محاولاتها لإقامة جيش وطني قوي قد
تعرض لبعض الهزات، وقد توالت الإنجازات وكان أولها الإصلاح الزراعي الذي وزعت فيه الأراضي علي الفلاحين المعدومين وقد تم التوزيع بواقع خمسة أفدنة يدفع ثمنها بالتقسيط خلال 30 سنة بفائدة سنوية 3% وكانت الأقساط التي يدفعها أقل من قيمة الأرض.
وأقيمت المصانع الضخمة مثل مجمع الحديد والصلب ومجمع الألومنيوم ومصنع الكيماويات ومصنع إطارات السيارات ومصنع عربات القطار ومصنع الكابلات.. وتم تحديد ساعات العمل للعمال ورفع الحد الأدني للأجور وتوزيع الأرباح ومد مظلة التأمين عليهم وساهم السد العالي - وهو أحد أضخم المشاريع المائية في العالم - في ضخ الدماء في الصناعة ومد الريف بالكهرباء....
واهتمت الثورة بنشر الوحدات الصحية في الريف الذي حُرم في الماضي من أي نوع من هذه العناية، كما أقيمت الصناعات الدوائية الناجحة وكان الدواء مدعماً ويباع بأرخص الأسعار، واهتمت الدولة بالتعليم علي كل المستويات فعممت مجانية التعليم في جميع المراحل حتي المرحلة الجامعية وأُُتيح للفقراء أن يرسلوا أبناءهم إلي الجامعة كما أُتيح للجميع دخول الكليات العسكرية دون أي اعتبار للمستوي الاجتماعي، وكذلك أََُقيمت المعاهد الصناعية والتطبيقية ووجهت إليها البعثات والمنح التدريبية.
وبوجه عام ظهر الانحياز بشكل عام إلي مصالح الجماهير وأحس المصري أن كل الفرص التي كان محروماً منها قد أصبحت متاحة له وأن الأبواب التي كانت مسدودة بفعل التمييز الطبقي قد تفتحت له ولذلك لم يكن غريباً أن تعلوا القامات وترتفع رءوس المصريين استجابة للنداء المعروف "أرفع رأسك يا أخي" ارتفعت الرءوس رغم أن الثورة قد استبعدت كل التيارات السياسية - وحلت التنظيمات والأحزاب - واحتضنت السجون مجموعات متباينة الاتجاهات من رجال الأحزاب والجماعات الدينية والاشتراكيين وباختصار غابت الديمقراطية السياسية.
لكن المواطن العادي لم يفتقد شيئاً فقط أحس أن حياته أخذت تتغير للأفضل... وكان كثيرون قد فقدوا الثقة في التيارات الحزبية القديمة وحتي الاشتراكيون انضموا إلي الركب وبعضهم كان في السجون، وأخيراً فأي ديمقراطية كان يمكن أن يفتقدها المصريون... لقد جربوا الحياة الليبرالية ولم تمكنهم قوانينها من أن ينعموا باختيار حاكمهم بحرية ويحاسبوه عند اللزوم، وحتي حزب الأغلبية لم يصل إلي الحكم الا سنوات قليلة وعند وصوله لم يفعل الكثير... والدستور تم الاعتداء عليه وحكمتهم وزارات بالحديد والنار فلا حرية سياسية تحققت ولا عدالة اجتماعية.
ورغم أن المشاريع النهضوية، مثل مشروع محمد علي، قد حققت لمصر تقدماً نحو الدولة العصرية ووضعت لبنات مصر الحديثة إلا أن البعد الاجتماعي قد غاب عنها وبعد أن ألغي محمد علي الإلتزام وصادر كل الأراضي الزراعية الا أنه بعد ذلك قام بتوزيعها علي السراة والأعيان.
وكذلك قاد " سعد زغلول " ثورة 1919 ضد الإنجليز مجابهاً أعاصير الاحتلال وجمود الأعيان وتهاون الضعفاء متمسكاً بحقوق بلاده.. ورغم ذلك فقد وقف ضد الاتجاهات اليسارية التي كانت تطالب بالاعتراف بنقابات العمال والفلاحين وتدافع عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وتطالب بحل مشكلة العاطلين وقد قدم بعض قادتهم للمحاكمة مستخدماً أساليب غير دستورية ولا ديمقراطية.
والشيء نفسه فعلته وزارة النحاس الأخيرة وعلي الرغم من أن بعض المكاسب الشعبية قد تحققت خلال حكمها فإن التيار الرجعي في الحزب والذي كان يقوده سراج الدين أحس بالقلق حين أخذت بعض القوي الفتية في الوفد ترفع شعارات العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية ولجأ إلي الإجراءات الاستثنائية وأستبعد القيادات الشابة وهكذا غاب البعد الاجتماعي عن كل المحاولات الوطنية السابقة.
لقد ثبت أن الارستقراطية المصرية لم تكن مؤهلة لإنجاز النهضة الكاملة رغم أنها كانت تضم أفراداً من الصفوة المستنيرة بإبداعاتها الثقافية والفكرية وذلك لأنها كانت تتكون من فئات اجتماعية يتناقض تطورها مع متطلبات الثورة.
فهل كان غريباً بعد ذلك أن يحتل عبدالناصر هذه المنزلة التي لم يصل إليها أحد في قلوب المصريين؟!
علي العموم لم تدم السعادة طويلاً فقد كان هناك عدو لمصر بل وكل القيم الإنسانية والحضارية يتربص بمصر وإنجازاتها والحقد يملأ قلبه، والخوف يدفع به إلي دائرة التآمر.
منقول