بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث عشر من سورة البقرة.
(إن) تفيد احتمال الوقوع، أما (إذا) تفيد تحقق الوقوع:
مع الآية الثالثة والعشرين والتي تليها، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ (23) ﴾
(إن) أيها الأخوة تفيد احتمال الوقوع، أما (إذا) تفيد تحقق الوقوع:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ﴾
( سورة النصر )
لا بدَّ من أن يأتي نصر الله:
﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ (6) ﴾
( سورة الحجرات: آية " 6 " )
قد يأتي وقد لا يأتي، فـ (إن): تفيد احتمال الوقوع، و(إذا) تفيد تحقق الوقوع:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ (23) ﴾
الريب: هو الشك، لماذا يرتاب كفار مكة برسالة النبي ؟ مع أن أعداء النبي عليه الصلاة والسلام وصفوه بالصادق والأمين ما جربوا عليه كذباً قط، أيعقل ألا يكذب على الناس ويكذب على الله ؟ كان المشركون يضعون عنده مالهم، يثقون به إلى درجةٍ أنه لمَّا هاجر أبقى ابن عمه علي ابن أبي طالب ليردَّ الأموال إلى أصحابها، فهو عندهم أمين، وهو عندهم صادق، وكان اسمه في قريش: الأمين، فلماذا يتهمونه بهذه الرسالة ؟ ويقولون عنه إنه كاذب ؟ وهو لم يتلقَّ علماً قط:
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) ﴾
(سورة العنكبوت)
أتى بكلامٍ معجز لا يستطيع أن يأتي بمثله فصحاء العرب، فمن أين جاءهم الريب ؟ قال بعض العلماء: هذا ريبٌ نفسي وليس ريباً عِلمياً، كانوا يتمَنَّوْن أن ينزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم، هم لهم مقاييس، مقاييسهم المال والجاه، ولكن مقاييس الله عزَّ وجل غير مقاييس البشر، وهذا معنى دقيق نحتاجه اليوم.
المراتب عند الله تنالها بالعلم والعمل فقط:
في كل مجتمع يوجد أشخاص أغنياء، أشخاص أقوياء، أشخاص وجهاء، هؤلاء قمم بموازين المجتمع، ولكنهم قد لا يكونون كذلك عند الله:
(( رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ))
[ أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة ]
أنت قد تكون عبداً ذا دخلٍ محدود، ليس لك شأنٌ كبير، لا أحد يفتقدك إذا غبت، ولا أحد ينتبه إليك إذا حضرت، هؤلاء سمَّاهم النبي الأتقياء الأخفياء: إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا:
(( إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ))
[ابن ماجة عن معاذ]
ومع ذلك قد تكون عند الله بمنزلةٍ عاليةٍ جداً، هم أرادوا هذه النبوَّة لرجلٍ من القريتين عظيم، له مالٌ وفير، وشأنٌ كبير، ونسبٌ عريق، ولكن الله سبحانه وتعالى يرفع من عباده من يشاء ويخفض من يشاء، فالبطولة أيها الأخوة أن تكون عند الله ذا مرتبةٍ عالية، المراتب عند الله تنالها بالعلم والعمل فقط:
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) ﴾
( سورة الزمر: آية " 9 " )
وقال:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) ﴾
( سورة المجادلة )
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا (132) ﴾
( سورة الأنعام: آية " 132 " )
معنى الحكمة:
عند الله مقياسان فقط ؛ مقياس العلم ومقياس العمل، دقق النظر والفكر:
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) ﴾
( سورة البقرة )
الحكمة خير كثير، يصف الله العظيم جلَّ جلاله هذا الخير بأنه كثير، ما الحكمة ؟ الحكمة بالتعريف الجامع المانع أن تعرف الحقيقة وأن تعمل وفقها، إن عرفتها ولم تعمل وفقها فلست حكيماً، أنت عالم، متعلِّم، مثقف، ولكنك لا تكون حكيماً إلا إذا تطابق السلوك مع ما تعرف من العلم، إذا تعلَّمت وانتفعت بما تعلَّمت، إذا عرفت وجاء السلوك اليومي موافقاً لهذه المعرفة، إذا عرفت الحقيقة الكبرى وجاءت الحركة اليومية موافقةً لهذه الحقيقة فأنت حكيم.
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ (269) ﴾
( سورة البقرة )
بنص القرآن الكريم:
﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (269) ﴾
( سورة البقرة )
الإنسان ينتفع بالحكمة إلى أبد الآبدين ولكنه لا ينتفع من المال الكثير إلا بالقليل:
ما هو خير الدنيا ؟ شخص معه ألف مليون، عنده خمسمئة دونم، عنده بيوت لا يعلمها إلا الله، عنده أموال منقولة وغير منقولة، عنده أرصدة بالبنوك الأجنبية بالمليارات. قال الله تعالى:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77) ﴾
( سورة النساء: آية " 77 " )
وازن بين الآيتين:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77) ﴾
( سورة النساء: آية " 77 " )
متاع قليل لأنه منقطع بالموت، يأتي الموت فلا يَدَعُ لك شيئاً إلا أمتاراً من أرخص أنواع الأقمشة، خام، غير مقصور، أسمر ـ هذا هو الكفن ـ لا تأخذ معك شيئاً، لذلك فالشيء المنقطع غير كثيرٍ، ولو ضاقت عنه الدنيا، لأنه منقطع، الآيتين:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77) ﴾
( سورة النساء: آية " 77 " )
وقال:
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (269) ﴾
( سورة البقرة )
إنك تنتفع بالحكمة إلى أبد الآبدين، ولكنك لا تنتفع من المال الكثير إلا بالقليل، ما تأكل، وما تشرب، وما ترتدي من ثياب، سرير تنام عليه، بيتٌ يؤويك.
العبرة أن تكون عند الله كبيراً:
سأل ملك جبار وزيره ذات مرة: من الملك ؟ فانخلع قلب الوزير وقال له: أنت الملك، هل في الأرض ملكٌ غيرك ؟ قال له: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيتٌ يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزقٌ يكفيه، إنَّه إن عرفنا جَهِدَ في استرضائنا، وإن عرفناه جَهِدْنا في إحراجه، فالملك بالمفهوم الدقيق هو الذي عرف الله وكان مستقيماً على أمره فوعده الله بالجنة.
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ﴾
(سورة القصص)
هم يتمَنَّوْن أن تكون هذه النبوة لرجلٍ من القريتين عظيم بمقياس الأرض، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاها لإنسانٍ صادقٍ، أمينٍ، محبٍ، مخلصٍ، مطيع، فكل بطولتك أن تكون وفق مقاييس الله عزَّ وجل إنساناً مقبولاً عند الله، فهذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله، وهذا الموظَّف البسيط الذي يخدم الناس ولا يبتزُّ أموالهم، ولا يوقعهم في حرجٍ شديد، ولا يعقِّد عليهم الأمور، قد يكون في أدنى مرتبة في الدنيا، ولكنه عند الله كبير، هذا التاجر الصدوق الذي يعلِّم الناس درساً في الورع والاستقامة والصدق والأمانة إنه عند الله كبير، إنسان له دخلٌ محدود يسعى لنشر الحق هو عند الله كبير، العبرة أن تكون عند الله كبيراً، كان من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام: " اللهم أرني بعين نفسي صغيراً، وبأعين الناس كبيراً ".
هناك أشخاصٌ كثيرون هم عند الناس صغاراً لكنهم عند أنفسهم كُبَاراً، هذا مرض العُجب والكِبر.
أعلى مرتبة في الدين مرتبة العبودية لله وهي التي وصل إليها النبي الكريم:
أيها الأخوة:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) ﴾
أعلى مرتبة في الطب أن تحمل بورد، أو ( إف آر إس ) من بريطانيا، أو (أكريجيه ) من فرنسا، هذه أعلى شهادة بالطب، أعلى شهادة في الآداب أن تحمل دكتوراه دولة وتأخذ عليها جائزة نوبل مثلاً، هذه مراتب الدنيا، رجل ألَّف إنتاجاً أدبياً فقُدِّر عالياً إلى درجة أنه منح عليه جائزة نوبل، لكن يا ترى ما هي أعلى مرتبة عند الله عزَّ وجل ؟ أعلى مرتبة في المال أن يكون معك آلاف الملايين بالعملات الصعبة الغالية جداً ـ آلاف الملايين ـ الذي اخترع الكمبيوتر ويقود الآن صناعة متفوقة فيه، حجمه المالي الآن ثلاثين مليار دولار، هذه مرتبة مالية عالية، وهناك مرتبة علمية كأينشتاين الذي جاء بالنظرية النسبية، وهناك مرتبة إدارية كالذي يتربَّع على عرش أقوى دولة في العالم هو في قمة هذا المجتمع، لكن ما هي أعلى مرتبة في عالم الدين ؟ أعلى مرتبة هي التي وصل إليها النبي، مرتبة العبودية لله، أن تكون حقاً عبداً لله:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) ﴾
أنت في أعلى درجة عند الله حينما تكون عبداً له، معنى عبد: انصياعٌ كامل، حبٌ كامل، إخلاصٌ كامل، رضى بقضاء الله وقدره، طُمأنينة إلى وعد الله:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ﴾
( سورة الأحزاب )
الله عزَّ وجل وليّ دينِهِ وهو ينصره دائماً بطريقةٍ أو بأخرى:
كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام في أثناء الهجرة ملاحَقاً وقد هُدِرَ دمه، ووضعت قريش مئة ناقة مكافأة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، لحقه سُراقة ليقتله، وليأخذ المئة ناقة، فقال له النبي ـ وإذا كان هناك للدعوة الإسلامية في عهد النبي خطٌ بياني، كان هذا الخط في نهايته الدنيا، أي في أصعب مرحلةٍ مرَّت بها الدعوة، النبي بين مكة والمدينة مهدورٌ دَمُهُ، مُلاحُق، مئة ناقةً لمن يأتي به حياً أو ميتاً ـ قال له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ معنى ذلك أن النبي واثق أنه سيصل إلى المدينة سالماً، وسيُؤسس دولةً هناك، وسيحارب الفرس، وستأتيه كنوز كِسْرَى، ووعد سراقة أن يلبسه سواري كسرى.
انظر إلى الثقة بوعد الله عزَّ وجل، وعدك الله بالنصر، وكلما كان إيمانك قوياً فإنه لا يتزعزع ولو سمعت ألف خبر ضد الإسلام، هذا الدين دين الله ولن يتخلى عنه أبداً، ولكن أرجو الله أن يكسبني الشرف فأكون جندياً له، القلق دربي من باب واحد هو خوفي ألا يسمح الله لي ألا أكون جندياً للحق، ألا يقبلني جندياً من جنده، أما هذا الدين فهو دينُه، وهو ناصره، وربنا عزَّ وجل قد ينصر دينه بالرجل الفاجر، وأحياناً يُسَخِّر أعداء الدين لخدمة الدين، ولربما تَنْبُع الدعوة من بلدٍ يحارب الدين، وهذا الذي يحدث الآن في أوروبا وأمريكا، إذ يزداد الوعي فيهما، ويدخل الناس في الإسلام أفواجاً، يصلون إلى مراتب عُليا وهم مسلمون، وهذا الذي يُقْلِقُ الغرب، يقولون: في عقر دارنا أناسٌ من جنسنا مثقَّفون أعلى ثقافة، يحتلون أعلى المناصب يسلمون !! الله عزَّ وجل وليّ دينِهِ وهو ينصره دائماً بطريقةٍ أو بأخرى، ولكن اِقلق إن لم يسمح الله لك أن تنصره، أو أن تكون في عداد جنده، لأن الله عزَّ وجل عزيز:
﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) ﴾
( سورة محمد )
معرفة الله و طاعته تثمر إيماناً وتقوى:
هذه الأمة العربية التي شرَّفها الله بالرسالة، وجعلها أمةً وسطاً، إذا قَصَّرت في مهمتها سخَّر الله أمةً أخرى، نحن شرّفنا ربنا بأن جعلنا في أشرف المواقع بين الأمم، وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وحبيب الحق من جنسنا، تجد إنساناً غير عربي اللسان يقف في الصلاة ويبكي خاشعاً ولعله لا يفهم شيئاً من التلاوة ـ لأن لغته ليست عربية ـ يُسأل: لماذا تُصَلِّي أو تحضر هذه الصلاة الجهرية في المسجد وأنت لا تفهم شيئاً ؟ يقول: ماذا يفهم الطفل الرضيع وهو على صدر أمِّه ؟ يمصُّ ثدييها، وتضمُّه بيديها إلى صدرها وتغمره بحنانها، ماذا يفهم من كلامها ؟ لا يفهم شيئاً، لكنَّه في قمة السعادة، مثله مثل الطفل ذاك، فهذا يصلي ولا يفهم ماذا يُتلى في الصلاة ولكنه سعيد بقربه من الله سعادة الطفل بقربه من أمه، ونحن لغتنا عربية نستمع إلى القرآن صباح مساء، نصلِّي خلف الإمام فنفهم قراءته، أيكون هذا الذي لا يتقن العربية أقرب إلى الله منا ؟!!
يا أيها الأخوة، القضية مصيرية والأمور واضحة جداً، هناك في هذا الْكَون حقيقة واضحة جداً، حقيقة واحدة هي الله، كل من اقترب من هذه الحقيقة شعر بالأمن، شعر بالطُمأنينة، شعر بالرضا، شعر أن المستقبل له، شعر أن الدنيا صغيرةٌ جداً لا تستأهل أن نهتم لها:
((إنما الدنيا عرض حاضر يصيب منها البر والفاجر وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ))
[الحسن بن سفيان والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس]
(( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء))
[الترمذي عن سهل بن سعد]
قال لي شخص: مساحة بيتي سبعمئة متر، تجد فـي هذا البيت كلُّ ما تتمنى ؛ حدائق، شرفات، أبهاء، أثاث فخم جداً، كل وسائل العصر في هذا البيت، أجبته: هذا النبي الكريم الذي هو سيِّد ولد آدم، سيد الخلق وحبيب الحق، كان إذا أراد أن يصلِّي قيام الليل، لا تتسع غرفته لصلاته ونوم زوجته، فكانت تنزاح جانباً كي يصلي، معنى ذلك أن مساحة البيت ليست مقياساً لسعادة الإنسان، والدخل ليس مقياساً، كذلك أحد الصحابة وهو سيدنا مصعب بن عمير كان والده غنياً، فلمَّا أعلن إسلامه قاطعه أبوه وطرده ولم يعطه من مال الدنيا شيئاً، كان من أكثر شباب قريش أناقة، كان من أكثرهم غنىً، كان شاباً عطراً، فلما أسلم ذاق ألوان الجوع وألوان العُرِي، ولما مات رآه النبي وقد كُفِّن بثوب إذا وضع على رأسه انكشفت قدماه، إذا جرَّ إلى قدميه انكشف رأسه، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الدنيا ليست لها قيمة، قد تكون أمين مستودع، قد تكون ضارب آلة كاتبة، قد تكون بمنصب صغير جداً وأنت عند الله كبير، عند الله مقياس واحد ؛ الذي عَرَفَه وأطاعه معرفة وطاعة أثمرتا إيماناً وتقوى.
النبي الكريم عرف الله واستقام على أمره فتبوأ أعلى مرتبة ينالُها إنسان على الإطلاق:
اقرأ:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾
( سورة يونس )
عرف الله واستقام على أمره فتبوأ أعلى مرتبة ينالُها الإنسان على الإطلاق، فكان عبداً لله، واقرأ قوله تعالى:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ﴾
( سورة النجم )
أين هذا الكلام ؟ عند سدرة المنتهى، في المرتبة التي لم يصل إليها إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم:﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) ﴾
( سورة النجم )
وقال:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ﴾
( سورة النجم )
وقال:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ (1) ﴾
( سورة الإسراء )
الفرق بين العبيد والعباد:
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) ﴾
إذاً حينما تتعبد لله حقاً ترتقي إلى أرقى مرتبةٍ في الكون وهي أن تكون عبداً لله، لكن الناس كلهم عبيدٌ لله قولاً واحداً، عبيدٌ لله جميعاً كافرهم ومؤمنهم، معنى العبودية: أن تكون مفتقراً إلى إمداد الله، من منا يقول: أنا لست عبداً ؟ إذا لم تكن عبداً أغلق أنفك، فهل تستطيع ؟ أنت مفتقر إلى هذا النَفَس، فإذا مُنع عنك الهواء ثلاث دقائق تموت، لست عبداً ؟ دع الماء أياماً معدودة يوماً أو يومين يموت الإنسان، لست عبداً ؟ دع الطعام، وجودك مفتقر إلى ما حولك، إلى هواء، إلى ماء، إلى طعام، إلى زوجة، إلى مأوى، إلى رزق، إلى مال تشتري به الطعام، إذاً أنت عبد، هذا العبد المقهور ليس هو المقصود، هذا عبد القَهْرِ، جمعه عَبيد:
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) ﴾
( سورة فصلت: آية " 46 " )
لكن المقصود عَبْدَ الشكرِ، جمعه عِباد:
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً (63) ﴾
(سورة الفرقان: آية " 63 ")
وقال:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ (53) ﴾
( سورة الزمر: آية " 53 " )
دليل هذا الكتاب إعجازُه:
العباد هم الذين عرفوا الله، واختاروا طاعته، وآثروا قربه، وعملوا لبلوغ جنَّته، ففرِّق بين العبيد والعباد، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عبدٌ، عبدٌ لله، لكنه عبدٌ أتاه بمحض إرادته، هو عبد الشُكْرِ، لا عبد القهرِ، الملحد عبد لله، بدليل أن وجوده مفتقرٌ للهواء والشراب والطعام، هو عبد ولكنَّه عبدٌ مقهور، العبد المؤمن تعَرَّف إلى الله باختياره، وأطاعه باختياره، فهو عبد الشكر، إذاً:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) ﴾
دليل هذا الكتاب إعجازُه ؛ أي نظم القرآن، صياغة القرآن، لغة القرآن، حروف القرآن، أخبار القرآن، الحقائق العلمية في القرآن، المنهج التربوي في القرآن، أصول العلوم في القرآن، هذه يَعْجَزُ عنها كلُّ البشر، لذلك إعجاز القرآن دليل على أنه كلام الله، وقد كان الدرس الماضي حول إعجاز القرآن الكريم، هناك إعجاز علمي، وإعجاز أدبي بلاغي، وإعجاز إخباري، إعجاز وصفي، وإعجاز أدبي، قال سبحانه:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24) ﴾
الله عزَّ وجل تحدى البشرية كلها بهذا القرآن:
هذا التحدي قائمٌ أبداً، ومَن يستطيع من بني البشر أن يحكم على المستقبل ؟ هذا مستحيل، قد يقول أحدهم: أنا أعلم العلماء الآن، هل يقول أحدٌ في الأرض: أنا أعلم العلماء في هذا الموضوع في المستقبل ؟ هذا كلام غير علمي، مثل هذا الإنسان يُضْحَكُ عليه ويسخر منه، قد يتحدَّى الإنسان من حوله ولكنه لا يستطيع أن يتحدَّى من سيأتي بعده، إلا الله وحده فهو يتحدى لأنه عليمٌ بكل شيء، لأنه علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما سيكون وعلم ما لم يكن، لأن الله وحده يعلم السِرَّ وأخْفى يقول:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24) ﴾
لن تستطيعوا:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24) ﴾
في المستقبل، معنى ذلك أنه مضى على نزول هذا القرآن أكثر من ألفٍ وأربعمئة عام، وتقدّم العلم تقَدُّمَاً يفوق حَدَّ الخيال، هل في كل علوم الأرض حقيقةٌ مقطوعٌ بها تُصادم آيةً قرآنية ؟ أبداً، لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكن يقع المسلمون أحياناً في منزلقٍ مضحك، يقول لك أحدهم: الحمد لله، القرآن يوافق العلم، هذا كلام مضحك، بل قل: الحمد لله العلم يكْسب وسام شرف حينما يوافق القرآن، القرآن هو الأصل، لا تمدحِ القرآن بأنه وافق العلم، يجب أن تمدح العلم بأنَّه وافق القرآن، هذا كلام خالق الأكوان، هذا الكلام الذي لا ريب فيه.
هناك عبارة أقولها لكم كثيراً: فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، كم هي المسافة بين خالق الأكوان وبين هذا الإنسان الضعيف ؟ فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، لذلك تحدى الله عزَّ وجل البشرية كلها بهذا القرآن، ومع ذلك فإنني لم أدخل في موضوع الإعجاز الآخر الرياضي، هناك بحوث ودراسات والله مذْهِلة، ملخَّصها أنَّك إذا بدَّلت حرفاً واحداً في كتاب الله يَخْتَل ميزان القرآن الكريم، حروفه حرفاً حَرفاً بحسابات دقيقة جداً محسوبة لو بَدَّلت حرفاً واحداً، أو حذفت حرفاً واحداً، أو أضفت حرفاً واحداً بحيــث لا يختل ميزان القرآن كله، ولكن لا مجـال للخوض في موضـوع الإعجاز الحسابي والرياضي علماً أن هناك علماء دخلوا في هذا الموضوع، ولم يكونوا مخلصين فيه فَزَلَّت أقدامهم زلاّتٍ لا تعَدُّ ولا تحصى.
أي كتاب يضم حقائق علمية مكتشفة بعد القرآن لا يمكن أن تتعارض مع آيات في كتاب الله:
قال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (24) ﴾
مثلاً هل يعقل أن عالماً من كبار علماء البحار، بعد جهدٍ جهيد، وبعد عمرٍ مديد يكتشف حقيقةً يظنُّ أنه ما سبقه إليها أحد، وهي أن بين البحرين حاجزاً، فإذا هي آيةٌ كريمة في القرآن الكريم قبل ألفٍ وأربعمئة عام:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) ﴾
( سورة الرحمن )
هناك أخ طبيب أخصائي بالعظام درس في بريطانيا، درس على أستاذ في علم الأجنة، يُعَدّ من أكابر علماء عصره، وله كتاب من كثرة تداوله وشهرته يُسَمِّيه الطلاب: إنجيل علم الأجنة، لأنه صار كتاباً مقدَّساً عندهم، كتاب دقيق جداً يدَرَّس في كل الجامعات تقريباً، وهو أستاذ هذه المادة ومتفوق إلى أعلى درجة، قال: دخل ذات مرة على طلابه ليقول: ذكرت لكم سابقاً في كتابي مؤكداً أن العظام تتكون بعد اللحم، ثم تبين لي بشكلٍ لا يدع للشك مجالاً أن القضية بالعكس، العظم أولاً واللحم ثانياً، دخل إلى القاعة وهو في أعلى مرتبة في الجامعة وكأنَّه أحدث شيئاً وكأنَّه سَيُلْقي قُنْبُلةً علمية، فقال: اكتشفت مؤخراً أن العظام تتكون أولاً واللحم ثانياً، مع أنه خلال عشرين سنة أو ثلاثين سنة كان يؤكِّد أن اللحم أولاً ثم العظام ثانياً، قام طالب باكستاني وقال له: يا أستاذ هذه الحقيقة جاءت في كتابنا قبل ألفٍ وأربعمئة عام، قـال لي محدثي: كاد الأستاذ يُصْعَق، وأخذ يردد: هذا اختراعي، هذا كشفي، جاء الطالب بالقرآن الكريم مع ترجمته إلى اللغة الإنكليزية في اليوم التالي:
﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً (14) ﴾
( سورة المؤمنون: آية " 14 " )
ويقال إنه أسلم، واستعلنت الحقيقة خفّاقة أن أي كتاب يضم حقائق علمية مكتشفة بعد القرآن لا يمكن أن تتعارض مع آيات في كتاب الله التي تتحدث في النقطة ذاتها، أو الموضوع ذاته.
هناك إشارات في القرآن الكريم فيها أصول العلوم :
قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24) ﴾
بل إن هناك إشارات في القرآن الكريم فيها أصول العلوم، الذرة:
﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) ﴾
( سورة الأنبياء: آية " 33 " )
تَشَكُّل الجنين:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) ﴾
( سورة النجم )
حركة الجِبال:
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) ﴾
( سورة النمل )
قلب المؤمن الكامل فيه تعظيمٌ لله وخوفٌ منه وحبٌ له سبحانه :
شيء لا يصدَّق، قال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) ﴾
أيّها الأخوة الكرام القرآن متوازن، يتحدث الخطيب أحياناً عن جهنَّم فيملأ الناس رُعْباً منها، أو يتحدَّث عن الجنة فقط فيدغدغ أحاسيسهم ويسترخون لكن الأكمل أن تتحدث عنهما معاً، لماذا ؟ لأن الإنسان يخاف ومع الخوف ينبغي أن يتفاءل، قال:
(( قال داود فيما يخاطب ربه: يا رب أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك ؟ قال: يا داود أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي الكفين، لا يأتي إلى أحد سوءً، ولا يمشي بالنميمة، أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى عبادي، قال: يا رب إنك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك ؟ فقال: ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي.. ))
[رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس]
ذكرهم بآلائي كي يعظِّموني، ذكرهم بنعمائي كي يحبوني، ذكرهم ببلائي كي يخافوني، أي يجب أن تخافه وأن تحبه وأن تعظمه في وقتٍ واحد، قلب المؤمن الكامل فيه تعظيمٌ لله وفيه خوفٌ منه وفيه حبٌ له، نِعَمُه تدعو إلى محبته، ونِقَمُه تدعو إلى الخوف منه، وآلاؤه تدعو إلى تعظيمه، فالقرآن متوازن.
تبشير خالق الكون للمؤمن بالجنة:
بعد أن حذَّرنا سبحانه من التكذيب بهذا القرآن جاءت البشرى منه تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (25) ﴾
خالق الكون يُبَشُّرك، والله أيُّها الأخوة لو عقلنا هذه الآية، لو كنت تعاني ما تعاني ؛ ضيق دخل، مشكلة أُسرية، مشكلة صحية، مشكلة في عملك:
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (25) ﴾
خالق الكون يبشرهم:
﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (25) ﴾
هذا الوصف بليغ، أي أنَّه مكان جميل جداً، أحياناً يذهب الإنسان إلى بستان جميل ؛ ورود، أشجار، مياه، حدائق، مروج خضراء، بيت فخم، مسبح، يقول لك مندهشاً: مثل الجنة، إن الجنة دائمة خالدة، أما هذه النزهة ربع ساعة، ساعة، ساعتين، نهار ثم يكون ذكرى، ولكن الجنة إلى الأبد.
من معاني الآية التالية أن كل نعيم تناله في الجنة بسبب استقامتك في الدنيا :
قال تعالى:
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ (25) ﴾
ليست جنة واحدة بل جنات:
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (25) ﴾
هذه الآية لها عدة معانٍ ؛ من أوجه معانيها أن كل نعيم تناله في الجنة بسبب استقامتك في الدنيا، مثلاً إذا درس إنسان دراسة طويلة جداً ومتعبة جداً ونال أعلى شهادة، الآن يبدأ القطاف، الآن له دخل كبير، مكانة اجتماعية، راحة كبيرة جداً، ماذا يقول زميله الكسول ؟ يقول: متى صار فلان في هذه المرتبة العالية ؟ أين كان هو عندما كنت تلعب أنت في الأزقة ؟ عندما درس ثلاثاً وثلاثين سنة ولم يرفع رأسه يوماً وآثر الدراسة على كل حظوظه من الدنيا، الآن صار في مرتبة عالية، فهذا الذي تُرزَقه في الآخرة بسبب استقامتك في الدنيا، أهل الدنيا كلهم يدعونه إلى درس علم يقول لك: مشغول وليس عندي فراغ، لأي شيء لديك فراغ إذاً ؟ عندي ازدحام أعمال ومواعيد، يتنصَّل من كل مجلس علم يتعرف فيه إلى الله عزّ وجل، أما الذي يجلس على ركبتيه ليطلب العلم، وليعمل بالعلم فإن له عند الله مقاماً كبيراً، والله عزّ وجل جعل ثواباً لمجالسِهِ حوافز ومكافآت، قال: "هم في مساجدهم والله في حوائجهم " أما ترضى أيها المؤمن أنَّ يتولَّى الله أمرك ؟
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ﴾
( سورة البقرة )
المؤمن يرعاه الله ويربيه بينما الكافر كالدابة المنفلتة:
والله أيها الأخوة، هناك آية كريمة في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) ﴾
( سورة محمد )
تصوَّروا ابن في كنف أبٍ كبير، عالِم، غني، مُرَبٍِّ، أحسن تنشئته، اعتنى بأخلاقه، اعتنى بدينه، اعتنى بصحته، اعتنى بطعامه، اعتنى بهندامه، اعتنى بشهاداته، اعتنى بمكانته، راقب تصرُّفاته، ضبط حركاته وسكناته حتى صار إنساناً ألمعياً، وهناك شاب بلا تربية، يمضي وقته بأماكن اللهو، بأماكن القِمار، متَّهم بالسرقة، متهم بالزنى، مودع بالسجن، هذا إنسان من دون مربّ ٍ، المؤمن يرعاه الله ويربيه، عنده قرآن يربِّيه، عنده جامع يربيه، تجد المؤمن متميِّزاً، عنده حياء، عنده خجل، في ملابسه حياء، بحركاته وسكناته، مزحه لطيف جداً، نظراته أديبة، كلامه مضبوط، عنده خوف من الله، عنده وفاء بالوعد، عنده رحمة في قلبه، عنده إنصاف، تجد كماله صارخاً:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) ﴾
( سورة محمد )
الكافر إنسان كالدابة المنفلتة، يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، أما المؤمن فهو إنسان راقٍ مُعلِّق قلبه وبصره بربه:
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (25) ﴾
معانٍ مستفادة من الآية التالية :
لولا أن الله منَّ علينا في الدنيا فعرفناه، وطلبنا العلم، واستقمنا على أمره، وغضّضنا من أبصارنا، وأقمنا الصلوات، وحججنا، وزكينا، وربينا أولادنا، وحجَّبنا بناتنا، وجعلنا بيتنا إسلامياً، وعملنا إسلامياً، ودخلنا حلالاً، وإنفاقنا صحيحاً، وتوخِّينا العمل الصالح لما وجدنا هنا، الآن انظر إلى شخص يحمل شهادة عُليا، بعدما تعب ثلاثاً وثلاثين سنة، إذا جلست معه يقول لك: والله تعبنا كثيراً، والله جاءت أيام لم ننم الليل، كان عندنا أساتذة شديدو القبضة علينا، تجده يفتخر ويشعر بنشوة أنه تجاوز عقبات كبيرة جداً، فأهل الجنة في الجنة، قال تعالى:
﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (25) ﴾
المعنى الأول: لولا أنَّ الله منَّ علينا في الدنيا، وتعرَّفنا إليه، وكلفنا بعض الشدائد مما حَمَلنا على التوبة، فجمعنا مع أهل الحق، وأخذ بنواصينا إلى أن نعمل أعمالاً صالحة، قرَّبنا، تجلَّى علينا، ملأ قلوبنا نوراً، ملاً قلوبنا حبوراً، ملأ قلوبنا محبةً له، حبب إلينا الإيمان وزيَّنه في قلوبنا، كرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، لولا فضل الله علينا ما كنا في هذه الجنة.
المعنى الثاني: إذا أمسكت تفاحة في الجنة، هذه تفاحة، لكن عندما أكلتها فليس هناك نسبة، وليس لها علاقة بتفاح الدنيا إطلاقاً، طعم آخر أطيب بكثير، العلاقة بينهما الشكل والاسم فقط، ليس من فواكه الجنة في الدنيا إلا الاسم والشكل:
﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً (25) ﴾
أي أن التشابه بالشكل والاسم، أما الطعم فلا نسبة بينهما بل المقارنة مرفوضة، أنت تشرب أحياناً كأساً من الشراب المصنع والمصنوع، ونشرب شراباً طبيعياً طازجاً مئة بالمئة، فلا تجد بينهما أي نسبة، أين الثرى من الثُريا ؟ الاسم واحد ولكنك تجد أن الشراب الكيماوي كيماوي، والشراب الطبيعي لا يُقَدَّر بثمن وهذا في الدنيا، فكيف في الجنة ؟ هذا المعنى الثاني.
الذي يزهد في الجنة ويعيش للدنيا فقط إنما هو إنسان أحمق :
قال تعالى:
﴿ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (25) ﴾
لا يوجد نَكَد، ولا يوجد تَرَهُّل، ولا يوجد مرض، هناك متاعب عديدة عند النساء في الدنيا، أما في الجنة فلا، هن طاهرات ومطهرات، لا حيض، ولا نفاس، ولا نشوز، ولا زوجة حاقدة، ولا زوجة لئيمة، انتفى كل ذلك أبداً، والزوجة يزينها كمال وجمال منّة من الله تعالى:
﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) ﴾
هذه هي الجنة، وطريقها واضح، وهي بعد الموت، فالذي يزهد في الجنة ويعيش للدنيا فقط إنما هو إنسان أحمق:
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) ﴾
الذين أحبَّهم الله عزّ وجل جعل دنياهم كفافاً:
قد ينتقي الواحد زوجته وتكون من الدرجة الأولى، ولكنها كبرت بعد الخمسينات، اختلفت، تجد أن أكثر النساء مصابات بعلل مرضيـة كثيرة، وتنوعت مشكلات الحياة لدى الزوجين، شاءت حكمة الله عزّ وجل أن تكون الحياة متعبةٌ لأننا خُلِقنا للجنة، فإذا كانت الحياة مريحةً جداً كرهنا لقاء الله عزّ وجل، إذا كانت الحياة مريحة جداً وكل شيء كاملٌ فيها زهد الناس عندئذٍ عن الآخرة، وكانوا ممن يشملهم قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) ﴾
( سورة يونس )
لذلك الدنيا العريضة خطر كبير جداً، هؤلاء الذين أحبَّهم الله عزّ وجل جعل دنياهم كفافاً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم من أحبني فاجعل رزقه قوتاً ـ كفافاً ))
[متفق عليه عن أبي هريرة ]
الإنسان ينبغي أن لا يطلب الكمال في الدنيا، ولكنه يجب أن يطلب الستر والكفاف في الدنيا والكمال في الآخرة، كل شيء في الآخرة كامل، الآخرة مبنية على أن لك ما تشاء، أيُّ خاطرٍ يخطر على بالك تراه واقعاً أمامك، إنه نعيم الجنة الذي لا يُداني قال تعالى:
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) ﴾
( سورة الحاقة )
أي أُكُلها دائمٌ وظلها، فواكهها:
﴿ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) ﴾
( سورة الواقعة )
الجنة كما وصفها الله عزّ وجل في القرآن الكريم :
في الجنة أنهار من عسل، من لبن، من عسل مُصَفَّى، من لبن لم يتغيَّر طعمه:
﴿ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ(15) ﴾
( سورة محمد: آية " 15 " )
وقال:
﴿ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ (15) ﴾
( سورة محمد: آية " 15 " )
الماء غير آسن، واللبن لم يتغير طعمه، والعسل مصفَّى، والخمر لذةٍ للشاربين:
﴿ وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) ﴾
( سورة الواقعة )
هذه هي الجنة كما وصفها الله عزّ وجل في القرآن الكريم، هي للمؤمنين، والطريق لها سالك غير صعب، شروطها غير تعجيزية، أحياناً يكون هناك شيءٌ عظيم لكن شرطه تعجيزي فوق طاقتك تزهد به، لكن الجنة ليست كذلك، بل يكفي أن تعرف الله حقاً، وأن تطيعه صدقاً، وأن تؤدِّي واجباتك تِجَاهه كاملة، فأنت إذاً من أهل الجنة، في الدرس القادم إن شاء الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26) ﴾
والحمد لله رب العالمين