الأبطال يقدمون الرؤوس والنفوس لتلك المعالي والضروس ، فيا عابد الدراهم والفلوس، عش في عبوس، ودم في نكوس.
قال نور الدين محمود: (( اللهم احشرني في حواصل الطير وبطون السباع، فرزق الشهادة. وقال ابن الطرماح: اللهم لا تجعل وفاتي علي سرير في الدار، ولكن اقتلني بسيف الكفار. وقال طلحة يوم أحد: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي. وقال عبد الله بن جحش: اللهم إنك تعلم أني أحبك.. وقال إعرابي رب أرسل علي في المعركة سهماً يقتلني.. وصح في الحديث : (( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات علي فراشه))، وسأل ابن رواحه ربه أن يطعن في سبيله طعنة تصل الكبد !..
يا ليت أنك قد حـضرت نزالنا
ورأيت كيف تقطع الأعناق
كأس المنايا بيننا نحـــسو به
حب المهـــيمن كله ترياق
صارت كأغماد السيوف دورنا
والرمح في أحشائنا خفاف
متضرجين دماً فلو أبصرتنــا
أنسـاك ما قلد أنشد العشاق
طعن الإمام المحدث النابلسي بالخنجر في سبيل الله، فكلما طعن طعنة قال: الله الله الله !، فمات وهو يقول الله الله !.. قال أهل السير نزف دمه، فكتب علي الأرض الله الله الله ، فالله أعلم ، والعهدة علي الرواة:
إذا قتـلوا صحت بحق دماهــم
وكانت قديماً من مناياهم القتل
تدوس الخيول الصافنات رؤوسهم
غريبون لمال لديهم ولا أهل
تكسرت الأسياف يوم نزالهم
وفلت رماح الموت وانقطع النبل
تضحية برجال لا بجمال !
وفي عالم التضحية يتقدم عضد الدولة الملك المشهور بذبح ثلاثة ملوك من الكفار في عيد الأضحى المبارك ويهنئه الشاعر فيقول:
صل ياذا العــلا لـربك وأنحـر
كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلي من أن تكون ذوي السؤدد
تيجانهم أمامك تنثــر
كلما خر سـاجــدا لك رأس
منهم قال سيفك: الله أكبر !
وهذا مثل أضحية الأمير خالد القسري لما صعد المنبر يوم عيد الأضحى ، فخطب الناس وقال أيها الناس: ضحوا تقبل أضحيتكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم،إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، يقول ابن القيم:
ولذاك ضحي خـالد بالجـعـد
يوم ذبائح القــــــربـان
إذ قال إبراهيم ليس خليلـــه
كـلا ولا مــوسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة
لله درك من أخي قربــــان
(يحبهم ويحبونهم)
( يحبهم) !.. هذا عجيب، لأنه غني عنهم، وهم فقراء إليه، ولا يعتمد عليهم، ويعتمدون عليه ، ولا يطلب شيئاً منهم، وهم يطلبونه في كل شئ .
وعجيب أن يحبهم وهم مخلوقون ، وهو الذي خلق، ومرزوقون وهو الذي رزق.
(ويحبونه) .. ليس بعجيب، فقد صورهم وهم أجنة ، ثم أخرجهم من بطون أمهاتهم وله المنة ، ثم هداهم بالكتاب والسنة.
ويحبونه؛ لأنه أعطاهم القلوب، والأسماع ، والأبصار ، وسخر لهم الشمس والقمر والنهار، وحماهم من الأخطار في القفار والبحار.
ولو قال: يحبهم، وسكت لتوهم منهم الجفاء، ولو قال: يحبونه، وسكت، لقيل ليس لهم عنده اختفاء، فلما قال: (يحبهم ويحبونه)، تم الوداد والصفاء، وظهر الوفاق والوفاء.
ضحايا الحب .. شعراً
الحب في لغة الـهوي حرفان لكنه يوم النوى لغــتان
لغة القلوب ولا يفك رموزها إلا فؤاد دائم الخفقان
متوهد بهليب ذكري لو هوت في البحر ظل البحر في هيجان
ومضرج بدم الشهادة معلناً أسماء من ذبحوا علي القربان
ذابت حشاشة ورق خطابه فتجاوبت لحنينه العينان
بعثت له بالدمع ألف رسالة مظروفة بكمائم الأجفان
فإذا قرأت حروفها في ليلة أيقنت أن الحب شئ ثان
الحب ليس قصيدة عربية محبوكة الأطراف والأوزان
الحب ليس رواية منسوجة للعرض والأعلام والإعلان
الحب ليس تهتكا وتهافتاً وتظاهراً بمرارة الحرمان
الحب ليس من الدعي مقالة منحوتة بعجائب البلدان
كلا وليست خيمة بدوية مضروبة الأطنان في الصوان
ما كان حباً مسرحية عابث أدوارها تصميك بالدوران
الحب أن يقف الفؤاد مولهاً أنفاسه من لاهب النيران
لو سال من جسم المحب دماؤه كتبت حروف الحب في الجدران!
ترمي العيون إليه وهي نواعس سهمين من وصل ومن هجران
فإذا التقي سهم الوصال بقلبه هزته ذكر ملاعب الولدان
وإذا أتي بالهجر سهم صائب فهو الشهيد بساحــة الميدان
وتثير أنفاس الصباح بروحه أشواق من رحلوا من الأوطان
فيظل في بحر التذكر باكياً ما عاد من صبر ومن سلوان
وإذا الصبا هبت وحل أريجها هجر الكرى ومجالس الإخوان
لو مر طيف حبيبه بمنامة لارتاع وهو يعد في الشجعان !
أما الضلوع فلو لمست لهيبها لظننتهـا مـن لاهب النيران !
هجر الرقاد وقد تصدق بالكرى فكأنه يشكو إلي الدبــران
خلعت له الجوزاء من أسمالها ثوب السهاد بليلة الأحـزان
وكساه حتى الليل بردة عاشق تغنيه عن خلع وعن قمصان
تلقاه مفجوعاً يقلب كفه متلهفاً كـالواله الحــيران
فإذا غفا فحبيبه في جفنه متمثلاً في صـورة الخجلان
وإذا صحا من يهوي غدا في كل ناحية وكل زمــان
إن لاح برق قال بسمة عاشق أو ناح رعد قال صوت فلان!
والصبح طلعة وجهه وجماله والغيث يشبه دمع من يهواني!
ونشيد طير الروض يحيي ميتاً من شوقه في سالف الأزمان
فهو المعذب ما قد راعه يحنو له حساده فهو البعيد الــداني
يا لائمي في الحب ليتك ذقنه وسقاك من جفنيه من أسقاني!
إن كنت تعذلني فجرب ساعة هجر المحب وفرقة الخلان
فلسوف تعذرني وتفقه قصتي وتبيت أنت مجرح الأركان
أنا ما هويت مربرباً ألحاظه سحر وفوق لماته خالان
ورموشه كسيوف هند اشرعت ضرباتها تهدي الردى لجنان
وعلي الجبين من الجمال مهابة وحلاوة من منطق فتان
فالنور من تلك الثنايا ذائب والشهد ترشف شمعة شفتان
وكلامه سحر حلال مترف ينسيك عذب معازف العيدان
وكلامه سحر حلال مترف لا يصح سامعه من الإدمان
سكر من النغم البريء وآخر من دفء حب إنه سكران
قالوا الثريا علقت بجبينه وتوضأت بضيائها كفان
ما روضة فيحاء باكر الندي والغيث مساها علي إبان
والمسك في أعطاف كل خميلة ما شئت من شيح ومن ريحان
والطل في أردانها متمارج لله من طل ومــن أردان
يوماً بأذكى من تضوع عطره كلاً ولا في الحسن يستويان
لم يسبني هذا ولم أهدي له حبى ولم أراهن عليه جناني
كلا وما أحللته من مهجتي روضاً وما اسكنته بستاني
عهد الزيانب كله أنسيته وذكرت كل العمر ما أنساني!
حبي لمن منح الجميل وزادني شرفاً وبصرني الهدي وحباني
حبي لمالك مهجتي ولخالقي ولرازقي هو صاحب السبحان
شرفي بأرني عبده يا فرحتى والفخر لي بعبادة الرحمن
وعليه سار الفائزون جميعهم متوهجين إلي عظيم الشان
ولأجله بذلوا النفوس وعلقت تلك الجماجم والتقي الجمعان
سالت علي حد السيوف دماؤهم وسعوا دامي الملابس قاني
ومقطع الأوصال يسحب جسمه فوق اللظي، يشوي علي الصوان
ومبعثر الأشلاء لو جمعته ألفيته بحواصل الغربـــان !
قتلوا لأجل محبهم وحبيبهم وسواهمو لمحبـــة النسوان!
فاعرف( ضحايا الحب) وافعل فعلهم إن كان ذاك الفعل في إمكان
فإذا جبنت من القتال وخفت من وهج السيوف وزحمة الشجعان
وخشيت من وخز الرماح ولم تطق ضرب الردى من فارس طعان
وبخلت بالنفس النفيسة موقناً أن العلا حرمت علي الكسلان
فاهجر فراشك والمنام مهللاً يوم الاذان يضج في الآذان
واحضر إلي الصف المقدم ضارعاً متملقاً للواحـــد الديان
واسكب دموعاً لا تصان لموقف عند العظيم مصور الأكوان
واهتف بصوت خافت متخشع متصدع لعجائب القــرآن
ومعفراً منك الجبين ومعلناً ندمـاً بنطق مقصر خجلان
فإذا أبيت ولم تطق هذا ولم تقدر عليه لسطوة الشيطان
فتمن موتاً عاجلاً وارحل فما أقسى البقاء لمفلس خسران!